أنباء الجامعــــــــة

 

 

 

 

إمام الحرم المكّي الشّريف فضيلة الشّيخ الدكتور

عبد الرّحمن عبد العزيز السّديس / حفظه الله

يزور الجامعة

 

بقلم :  الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*)

 

 

 

 

     لقد شرَّف الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند إمامُ الحرم المكّي الشّريف: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرّحمن بن عبد العزيز السّديس / حفظه الله، ورعاه بزيارته المباركة، وقد رافقه في زيارته هذه وفد مكوَّن من كل من سعادة الدكتور فيصل حسن طراد سفير المملكة العربيّة السّعوديّة لدى دهلي الجديدة، وفضيلة الشيخ أحمد الرّومي مندوب المملكة، وفضيلة الشيخ يوسف حفظهم الله، وذلك يوم الجمعة 19/ربيع الثّاني 1432هـ الموافق 25/ مارس 2001م .

     قام فضيلة الشيخ بهذه الزّيارة الودّيّة للهند على دعوة كريمة من فضيلة الشيخ أرشد المدني لحضور مؤتمر عظمة الصّحابة رضي الله عنهم الذي عقدته جمعيّة علماء الهند بدهلي يوم 20/ ربيع الثاني 1432هـ الموافق 26/مارس 2011م. وصل الشيخ دهلي يوم الخميس 18/ربيع الثاني. وكان في استقباله في المطار بدهلي وفد يضُمّ خمسة عشر شخصًا، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ أرشد المدني أستاذ الحديث بالجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند ورئيس جمعيّة علماء الهند، والشيخ عبد العليم الفاروقي الأمين العام لجمعيّة علماء الهند، والشيخ أسجد المدني، والشيخ أخلد الرّشيدي، والحافظ صديق أحمد، والمفتي أشفاق أحمد، والمفتي غياث الدين، ومن إليهم من كبار الشخصيّات الدينيّة، بالإضافة إلى سعادة الدكتور فيصل حسن طراد سفير المملكة العربيّة السّعوديّة لدى الهند مع موظفي سفارة المملكة العربيّة السعوديّة بدهلي.

     توجّه فضيلته بعد ما استقبله الوفد بالمطار مع سعادة السفير إلى فندق «أوبرا» بدهلي حيث أقام أيّام زيارته.

     قد نشرت الصحف الهنديّة منذ شهور نبأ مقدم فضيلته إلى الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند ضمن زيارته للهند لحضور مؤتمر عظمة الصحابة رضي الله عنهم في دهلي الّذي تعقده جمعيّة علماء الهند: - وإمامة صلاة الجمعة في جامعها الكبير: جامع رشيد يوم: 19/ ربيع الثاني 1432هـ الموافق 25/مارس 2011م. سرَّ هذا النّبأ العظيم مسؤولي الجامعة وأساتذتها وطلاّبها ومنسوبيها المنتشرين في أرجاء البلاد كلّها، فكانوا ينتظرون هذا اليوم انتظارهم للعيد السّعيد؛ لما في قلوبهم من حب وإجلال وتقدير نحو إمام المسجد الحرام بمكّة المكرَّمة، وأرض الجزيرة العربيّة المباركة، ومملكتها الرّشيدة: المملكة العربيّة السعوديّة وعاهلها العظيم: خادم الحرمين الشّريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز/ حفظه الله وتولاّه.

     قبل موعد مقدمه بأيّام قامت إدارة الجامعة بتشكيل عدّة لجان وإسناد الأعمال إليها، فنشطت اللجان وقامت بكل ما أسند إليها من أعمال ومسؤوليّات خير قيام، فتمّت استعدادات وترتيبات غير عاديّة في الجامعة نظرًا لأهمّيّة هذه الزّيارة المباركة، وللتغَلُّب على زحام الجموع الحاشدة من النّاس الّذين يتحرقون شوقًا إلى رؤية الإمام المبجَّل وسماع خطبته والصلاة خلفه.

     فتمّت إحاطة مكان أربعة صفوف من جامع رشيد الكبير مما يلي المحراب بأنابيب حديديّة لأساتذة الجامعة وكبار الشخصيّات الدينيّة، كما تمَّ إقامة سياجٍ حديدي أمام منبر الجامع ومحرابه لفضيلة الإمام والوفد المرافق له، وكبار أساتذة الجامعة؛ وذلك لئلّا يندفع الجمع الغفير من المصلين إلى فضيلة الإمام المحترم لرؤيته ولقائه. ورُسِمَتْ خطوطٌ بيضاء بالطباشير فيما يلي جامع رشيد من الشوارع والطرق والميادين في دور السّكن الطلابيّة تسويةً لصفوف المصلين، كما نصبت شعارات ترحيبيّة على الشوارع والمداخل والأبواب داخل الجامعة وخارجها، ونظّفت الشوارع والطرقات.

     فقبل حلول هذا اليوم الموعود بيومين أو ثلاثة أخذ النّاس يتقاطرون إلى الجامعة، وجامعها الكبير حتّى اغتصّ الجامع بالمصلّين يوم الخميس 18/ ربيع الثاني، فلمَّا حلَّ اليوم الأغرّ: يوم الجمعة 19/ ربيع الثاني 1432هـ، أخذ يتدفق سيل عارم من النّاس من كل صوب وحدب حتى غُلِبَتْ إدارة الجامعة على أمرها وتمـركز هذا السيل في ساحات جامع رشيد، وما يليه من مباني الجامعة، وشوارع المدينة وطرقاتها. فكلّما تقدمت ساعات النّهار ازدادت سيول النّاس تدفُّقًا. فلمّا كانت السّاعة الحادية عشرة اندفع الناس إلى الجامعة حتى انكسر أحد أبوابها، فاندفع الناس داخل الجامعة. وأمّا قبل وصول الإمام ما بين الحادية عشرة والثانية عشرة والنصف فحدّث عن السيول المتدفقة للمصلين ولا حرج.

     لقد رسمت إدارة الجامعة أنه يحضر مجموعة من مسؤولي الجامعة وأساتذتها بالسيَّارات مهبطَ الطائرة لاستقبال وتلقّي الإمام المحترم والوفد المرافق له، ويذهبون بهم إلى الجامعة دخولاً من باب الجامعة الذي يلي مبنى المكتبة الجديد الجاري بناؤه ومرورًا بالبوّابة الظاهريّة والمباني الجامعيّة ويصلون إلى مضيفة الجامعة، حيث يستقبله ويجتمع به مسؤولو وأساتذة الجامعة، وتوضع مأدبة شاي، وتعقد جلسة لقاء مع الأساتذة والمسؤولين، وذلك في الحادية عشرة ضحىً.

     ثم تعقد حفلة ترحيب في جامع رشيد الكبير في الثانية عشرة، وبعد انتهاء الحفلة يؤذّن لصلاة الجمعة، ويخطب فضيلة الإمام خطبتيها، ويؤم صلاتها. ثم يعود إلى المضيفة حيث يحضر مأدبة الغداء، ثم يجري اجتماع للأساتذة به للتّعارف ولتبادل الأرآء والمحادثة. ثمّ يودّعه الأساتذة في الثالثة والنصف، وتقله المروحية قبل الرّابعة إلى دهلي.

     لقد أفاد فضيلة الشيخ أرشد المدني ببرنامجه المخطط أنّه يركب متن مروحية خاصّة في التاسعة ضحى، ويستغرق السفر من دهلي إلى ديوبند نحو ساعة. فيصل ديوبند العاشرة، وتغادر المروحية ديوبند إلى دهلي حتى الرّابعة، ويبقى في الجامعة ما بين العاشرة إلى الرابعة.

     فلمّا أصبح صباح يوم مقدمه: الجمعة 19/ ربيع الثاني 1432هـ ذهب مجموعة مكوّنة من ستّة مسؤولي وأساتذة الجامعة إلى مهبط المروحية قرب جامعة الطب. وهم فضيلة الشيخ غلام محمد وستانوي أحد مسؤولي الجامعة، وفضيلة الشيخ المفتي أبوالقاسم النعماني الرئيس التنفيذي للجامعة، وفضيلة الشيخ مجيب الله الغوندوي عميد شؤون التعليم بالجامعة، والشيخ شوكت علي القاسمي البستوي، والشيخ محمد سلمان القاسمي البجنوري، والشيخ محمد عارف جميل القاسمي الأعظمي، وكاتب هذه السطور بجانب عدد كبير من كبار الشخصيّات من أهالي مدينة ديوبند، ورجال الشرطة من إدارة البوليس. هاتف الشيخ أرشد المدني الّذي كان معه في المروحيّة بأنه تصل بعد نحو الثانية عشرة، فيذهب الشيخ توًّا إلى جامع رشيد، وأن تعقد الحفلة إذا سمح الوقت وإلا يخطب الشيخ ويصلي الجمعة.

     هبطت المروحية في نحو الساعة الثانية عشرة والنصف. نزل فضلية الشيخ والوفد المرافق له من المروحية، فسلّم على من حضروا المهبط لتلقّيه من مسؤولي الجامعة وأساتذتها وكبار الشخصيّات من المدينة، فأحاطو به إحاطة الهالة بالقمر، يردّون عليه السلام، ويستقبلونه ويرحّبون به ويصافحونه. ثم قرَّب له رجال الشّرطة سيّارة مضادّة للرّصاص (Bullet Proof)  فركبها، وذهبوا به من جانب شارع «قاسم فوره» فلما دخلت سيّارته المدينة، وقف الناس في السماطين على جانبي الشارع مرحّبين به ومستقبلين، حتى دخل الجامعة من الباب الذي يلي مبنى المكتبة الجديد الجاري بناؤه، ووصلت سيّارته مخترقةً زحام الجموع الغفيرة من الناس، بصورة أو أخرى إلى المدخل المحرابي لجامع رشيد الكبير، فنزل من السيّارة وسلّم مشيرًا بيده لدى المدخل على الحضور، ثم دخل الجامع حيث ينتظره طلاب الجامعة وأساتذتها ومنسوبوها والحاضرون فيه وخارجه بفارغ الصبر، ويستطيلون اللحظات.

     وصل جامع رشيد الواحدة إلاّ الربع، فأقيمت فيه حفلة ترحيب، أدارها فضيلة الشيخ محمد سلمان البجنوري أستاذ بالجامعة، واستهلّها المقرئ آفتاب أحمد أستاذ التجويد والقراءات بالجامعة بتلاوة آي من القرآن الكريم.

     سلّط الشيخ محمد سلمان ضوءًا خاطفاً على الجامعة ومنجزاتها، وذكر ما قال عن الجامعة فضيلة الدكتور عائض القرني صاحب كتاب «لاتحزن» الذي زارها مؤخرًا: ... «أتذكر قول الدكتور محمد إقبال شاعر القارّة الهنديّة، بل شاعر الإسلام، حينما كان يُنْشِدُ في الجيل، ويقول لهم: أين الهممم عندكم؟ يقول بالعربيّة مترجمًا:

أرى التذكير أدركه خمول

ولم تبق العزائم في اشتعال

وأصبح وعظكم من غير روح

ولا سحر يُطِلُّ من المقال

وعند الناس فلسفة وفكر

ولكن أين تلقين الغزالي ؟

وجلجلة الأذان بكل حي

ولكن أين صوت من بلال؟

منائركم علت في كل ساح

ومسجدكم من العباد خال

     أقول لإقبال: رحمك الله؛ لو رأيت الناس، والطلاّب، والعلماء في دارالعلوم/ ديوبند لقلت: الحمد لله، وجدت الوعظ الصحيح، والعلم النّافع، والحياة الطيّبة، والتلقين المحقق، والتدقيق المصدق، والمنهج السوي بإذن الله».

     ثم أنشد الأخ إقرار أحمد طالب بالجامعة نشيدًا باللّغة الأرديّة في مديح الإمام المحترم لصاحبه الشاعر الأردي المعروف الشيخ رياست علي / حفظه الله أستاذ الحديث والأدب بالجامعة، وترجمه كاتب هذه السطور ترجمة حرةً إلى اللّغة العربيّة، وهي كما يلي:

جاء اليوم إمام الحرم    *  رضي الخلق جميل الشيم

وارث هادي الأمـم      *   ذو نسبـــة إلى الحـــرم

تبشّره في الجنّة بالفوز المبين

جاء اليوم إمام الحرم    *   تائجٌ بتاج الإمــامــــة

حالٍ بنور الأمانـــة    *  شادٍ بمدح الصحابــــة

يا لحسنَ دعوة الدّين !

جاء اليوم إمام الحرم   *   يسمع قرآنه الجنُّ والملك

ويعظّمه حتى الفلك    *   ويدوّي من الشرق إلى الغرب

بصوته العذب الرنين

جاء اليوم إمـام الحرم  *  كالصَّبا ذي الـريَّا العطـر

أوالسحاب ذي المسك الزفر   *    مقتفيا للصحب جُلّ الأثر

وبين النجوم كالقمر المزين

جاء اليوم إمام الحرم    *   قـرآنــه مزامـير داود

وله لهجة ابن مسعود  *  وثيقة صلتـه بالمعبـود

الله أحسن الخالقين

     ثم تلا كلمةَ التحيّة والترحيب المكتوبة فضيلةُ المفتي أبوالقاسم النّعماني الرئيس التنفيذي للجامعة الّتي جاء فيها:

     «نحمد الله جلَّ وعلا ونشكر على أنّه أتاح لنا نحن مسؤولي هذه الجامعة وأساتذتها وطلابَها ومنتسبيها هذه الساعة السعيدة التي نجتمع فيها بالداعية الكبير فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرّحمن بن عبد العزيز السديس إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرّمة/ حفظه الله ورعاه، في رحاب أكبر وأعرق الجامعات الإسلاميّة في شبه القارة الهنديّة: دارالعلوم، ديوبند .

     فكم سمعنا تلاواته الرطبة، فشنَّفت آذاننا، وأثَّرت على قلوبنا، وكم سمعنا اسمه، فأثار فينا كوامن الشوق إلى رؤيته، فنحن نعُدّ أنفسنا سعداء محظوظين، إذساق الله عزّ وجلّ لنا هذه الساعة المباركة التي نراه فيها بأم أعيننا.

     فنشكره ونرحّب به ترحيبًا حارًّا نابعًا من أعماق القلوب وقرارات النفوس، ونستقبله بكل معاني الأخوة الصادقة، والحبّ العميق، وعواطف الاحترام البالغ والتقدير العظيم.

     ضيفنا الكريم! كم تثلج صدورنا اليوم، وكم تقَرّ عيوننا إذ نرى بين ظهرانينا شخصيّتكم الكريمة التي تحظى بشرف عظيم، وهو إمامة وخطابة الحرم المكّي الشريف، وتسعد بالانتماء إلى الأرض المباركة التي جعلها الله مهبط الوحي الخالد، ومصدر الرسالة الأخيرة، ومنبع الهداية والإصلاح، ومحط أنظار المسلمين في العالم. كما تتشرّف بالانتساب إلى قيادتها الرّشيدة المتمثّلة في حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أضفى الله عليه ظلال الصحّة والعافية التي تُعْنٰى بتطبيق الشريعة الإسلاميّة، وتقوم بخدمة الحرمين الشريفين، وتوفّر كافة التسهيلات لضيوف الرّحمن».

     ثم ألقى الشيخ الإمام كلمة ذات أهمّيّة بالغة يشكر الله على هذه الزيارة للجامعة ويُشيد فيها بجهود مشايخ، وعلماء الجامعة في خدمة الإسلام، والعلوم الإسلاميّة. وقد قال فيها:

     «فإني أحمد الله تبارك وتعالى وأشكره على ما منّ به عليّ في هذا اليوم، اليوم الأغرّ من زيارة هذه الجامعة الجامعة العريقة، الجامعة الإسلامية [دارالعلوم/ ديوبند] في مثل هذه البلاد التي لها رسالتها العظيمة عبر قرون طويلة وسنوات متعدّدة، فالحمد لله والشكرُ له على هذه النّعمة السّابغة، فكم له علينا من آلاء وفضائل ونعم لانحصي لها عدًّا، أنقل إليكم أيّها الإخوة في هذا اللّقاء الماتع المبارك تحيّات وتقدير حكومة المملكة العربيّة السعوديّة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين وفقه الله وأيّده ورعاه، وكذلك سمو وليّ عهده، وسمو النائب الثاني للحكومة الرّشيده، وكذلك علماء وأئمّة الحرمين في مكة المكرّمة وفي المدينة النبويّة المنوّرة على ساكنها أفضل الصلوات وأتمّ التسليم، وكذلك شعب المملكة العربيّة السعوديّة الّذي يكنّ لكم المحبّة والتقدير، ويشيد بهذه الجهود المباركة الّتي تبذلها الجامعة، ويبذلها إخواننا المسلمون في شبه القارّة الهنديّة من تمسكهم واعتزازهم بإسلامهم ودينهم وحبّهم لمهبط الوحي ومنبع الرّسالة، هذا الحبّ الّذي ترجمه هذا الحضور الكثيف الّذي تعِب فيه الإخوة تعبًا، أسأل الله عزّ وجلّ أن يثيبهم عليه ويأجرهم، وهو من الرّباط في سبيل الله عزّ وجلّ، وهو من الأعمال الصالحة التي تدلّ على تلك المحبّة لهذا الدّين، ولعلماء الحرمين، ولمكّة المكرّمة وللكعبة المشرّفة ولمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشكر باسم المملكة العربيّة السعوديّة القائمين على هذه الجامعة رئيسًا وإدارةً ومؤظَّفين، وأعضاء هيئة التدريس، والطلاب الذين ترجم حضورهم هذا حبّهم للعلم وأهله، فبوركت هذه الجهود، وجزاكم الله عنّا خيرًا، ويعلم الله أن المسلم يسعد غاية السعادة، وهو يرى هذه الوجوه الطيّبة، وهذ الجمع المبارك الّذي يكتنف هذا اللقاء في لقاء الواقع أنه تاريخي متميّز لهذا الحضور الكثيف الذي إنّما أتى به حبّ الإسلام، وحبّ الحرمين، وحبّ المملكة العربيّة السعوديّة. إنّنا أيّها الإخوة نحبّكم في الله عزّ وجلّ وندعو لكم دائمًا بالتوفيق، والسّداد، ونكبر ونجلّ، ونعِزّ فيكم هذه الرغبة، وهذا الحبّ الكبير الذي لاشك أنّه يترجم عمليًّا الإسلام الحقّ باعتداله و وسطيّته الّذي يقوم على العلم النافع، وعلى العمل الصالح. فجزاكم الله خيرًا أيّها الإخوة على هذا الاحتفاء، وهذه الاحتفاليّة، وجزاكم الله خيرًا على ما شهدناه ولمسناه ورأيناه من حبّ كبير لأهل العلم وحملته، لاسيّما من أهل الحرمين الشريفين؛ فإنّي عاجز عن هذا التعبير الذي أستطيع أن لا أفي به من خلال هذا اللقاء وهذا الحضور وهذه المحبّة، ولكنّنا لانملك لكم إلاّ الدّعاء لكم بالتوفيق والتسديد والتيسير، وعلينا أيّها الإخوة أن نتحلى تحليًّا صحيحًا بالإسلام في عقيدته السمحة الصافية في التوحيد لله ربّ العالمين. وما الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند في هذه البلاد إلاّ نموذج ولله الحمد مشرق في إخراج الجيل المسلح بسلاح العلم والإيمان، فبوركت هذه الجامعة، وبورك القائمون عليها، وبورك المسؤولون فيها، ومدرسوها وطلابها. وإنّنا سعداء غاية السعادة، وأرى ذلك أيضًا في محيّا سفير خادم الحرمين الشريفين، والوفد المرافق الّذين غمرهم جميعًا هذا الحبّ وهذا التعلّق وهذا التميّز، فجزاكم الله عنّا خير الجزاء، وشكر الله لكم، وبوركت هذه الجامعة، وهنيئًا للأمّة الإسلاميّة، لاسيّما بالقارّة الهنديّة بهذا الجيل الّذي يعتز بإسلامه ودينه».

     ثم قام الشيخ أرشد المدني مترجمًا هذا الخطاب إلى اللّغة الأرديّة للحاضرين. ثمّ قام سعادة الدكتور فيصل حسن طراد سفير المملكة، وألقى كلمة أثنى فيها على حبّ وولاء مسؤولي وأساتذة وطلاّب الجامعة، والحضور المتجمهرين في جامع رشيد ومباني وشوارع المدينة وطرقها وساحاتها للإمام المحترم، وحكومة خادم الحرمين الشريفين، وأرض الحجاز المباركة، ودعا لهم بالخير والبركة. حيث قال:

     «في الحقيقة لايمكن للسفراء أن يتحدّثوا بعد السادة الأفاضل، لعلّه ليس هناك مجال للمقارنة؛ ولكن اسمحوا لي بكلمة شكر وتقدير أبديها للرئيس التنفيذي للجامعة الشيخ أبوالقاسم النعماني، وللشيخ أرشد المدني رئيس جمعيّة علماء الهند، ولكل الإخوة المسلمين في الهند على هذه الحفاوة وهذا الترحيب المنقطع النظير الذي نشهده اليوم، ترحيبًا بفضيله الإمام الدكتور الشيخ عبد الرّحمن السديس/ إمام المسجد الحرام المكي. والحقيقة ما نشهده اليوم هو تأكيد على أن الأمّة الإسلاميّة بخير إن شاء الله تعالى، فإنّنا نرى في هذه الوجوه المباركة المجتمعة هنا المستقبل الواعد بإذن الله، إن هذا الدّين لم يغالبه، لم يشادّه أحد إلاّ غلبه، إنّ هذا الدين الإسلاميّ صالح لكل زمان ومكان، وأنتم أهل العلم وأنتم أهل الجامعات أقدر الناس على إفهام العالم أجمع بأن هذا الدين بفضل الله لكل زمان ومكان.

     ولقد سعدنا كثيرًا بكل هذا الترحيب، ونرجو من الله سبحانه وتعالىٰ أن يوفّقكم، وأن يأخذ بأيديكم، ولكم منّا دائما الدعاء والدعم والمساندة».

     ثم خطب الشيخ الإمام خطبتي الجمعة. وممّا قال في خطبة الجمعة الأولى:

     «المسلمون أولى بالتراحم فيما بينهم، وتحقيق الأخوة الإسلاميّة، والبعد عن الاختلافات الفقهيّة، والاختلافات في الوسائل الدعويّة، فكلنا متحدون في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهكذا كان الأسلاف والأخيار والأئمّة الربّانيون العلماء الذين هم محل الاقتداء، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن التابعين بعدهم ومن الأئمّة الكبار كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعيّ، والإمام أحمد، فكلهم من رسول الله ملتمس غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم، هؤلاء علماء الإسلام الذين هم القدوة الذين ينبغي أن يُذْكَرُوا بجميل حتى مع الاختلاف بين أبناء المذاهب وبين أصحاب المذاهب، ينبغي أن يكون أدب الاختلافات، وأن تكون الشمائل والأخلاق والمودّه والحوار، والسماع للرأي الآخر، والإنصات وحسن الأدب، حتى ولو اختلفتَ مع من اختلفتَ، ولا يزالون مختلفين؛ ولكن يبقى أدب المحبّة والرّحمة، وينبغي أن تكون الصدور سليمة للمسلمين. كذلك ينبغي على المسلم وهو في مثل هذه البلاد أن يكون مسلماً صالحاً، ومواطناً صالحاً يحرص على النماء والإعمار والتنمية، وأن يكون رسل أمن واستقرار في هذه البلاد التي يعيش فيها، فالمسلمون عبر التاريخ لم يُعْرَفُوا إلا بهذه الصورة المشرقة، ولذا دخل كثير من الناس في دين الله أفواجًا نتيجةَ التسامح والأمانة والصدق والمحبّة التي سلكها الأسلاف».

     وقال في خطبة الجمعة الثانية:

     «إن إخواننا في هذه البلاد بلاد الهند، وفي هذه الدولة هم ولله الحمد ممن يعتزون بإسلامهم، ويتمسكون بدينهم، ويظهرون شعائره؛ فهم محل الفخر والاعتزاز والتقدير من المسلمين جميعاً، لاسيما إخوانهم في الحرمين الشريفين.

     إننا ولله الحمد والمنّة إذ نشهد اليوم هذه الجموع المباركة، هذه الجموع التي تحب الإسلام وتحرص عليه لمتفائلون بإذن الله؛ فالمؤمن دائمًا يتفاءل مهما كثرت المشكلات، فإنّه دائمًا يتفاءل بنصرة دين الله عزّ وجلّ، فلا يعرف اليأس والإحباط إلى نفسه سبيلاً. فأسلافكم فتحوا هذه البلاد بحسن التعامل وبحسن الشمائل، والأخلاق، فأنتم خير خلف لخير سلف، تحملون مِشْعَل الهداية للناس جميعاً في هذه البلاد، وتكونون مواطنين صالحين مقيمين في هذه البلاد إقامة كلها الخير وكلها الاستبشار، والدعوة إلى الفضائل، والتمسّك بالقيم والمثل والمبادئ التي جاء بها هذا الدين؛ بل وجاءت بها الشرائع الإسلاميّة كلّها في نشر الخير والعدل، والمحبّة والوئام، والأمن والاستقرار والسلام، والتمسك بالنّظام، والبعد عن الفوضى والافتراق».

     وفاض لسانه بدعاء طويل النّفس للقائمين على الجامعة، وللإخوة الحاضرين وللمسؤولين، والقائمين على هذه البلاد قائلاً: «اللّٰهم وفّق لإخواننا في الهند اللّٰهم وفّقهم لما تحبه وترضى، اللّٰهم وفّق القائمين والمسؤولين في هذه البلاد، اللّٰهم ارزقهم لكل خير، اللّٰهم ارزق بلاد الهند الأمن والاستقرار يا ذا الجلال والإكرام، اللّٰهم وفّق لإخواننا الحاضرين في هذا المسجد والمتابعين له، اللّٰهم اجعل ذلك من الرّباط في سبيلك، واجعل أعمالهم في موازينك، واجز القائمين على هذا الجامع وهذه الجامعة خير الجزاء على ما قدّموا ويقدمون للإسلام والمسلمين وعلى ما تعبوا في أداء هذه المهمّة العظيمة، اللهم فاجعل ذلك في موازين حسناتهم وصحائف أعمالهم».

     ثمّ صلى الجمعة بالحضور ودوّى في أرجاء مدينة ديوبند الصوت العذب الّذي يدوّي في المسجد الحرام. وقد صلّى خلفه نصف مليون نسمةٍ، لقد عادت معظم مدينة ديوبند مسجدًا صلّى الناس في مساجدها وساحاتها وشوارعها ومنازلها وعلى سطوحها ومحلاّتها التجاريّة، حتّى الهندوس ساعدوا المصلين في أداء الصلاة؛ حيث أفسحوا لهم في منازلهم ومحلاتهم.

     بعد ما انتهت صلاة الجمعة توجَّه مسؤولو وأساتذة الجامعة بفضيله الإمام والوفد المرافق له بالسيارات إلى مضيفة الجامعة مخترقةً الجموع الحاشدة التي يدفعها دفعًا الشوق البالغ، والرغبة الجامحة في رؤية ولقاء الإمام المحترم إلى سيّاراتهم، حتّى وصلت سيارته إلى باب المضيفة، فالتمس فضيلة الشيخ أرشد المدني أن ينزل إلى المضيفة؛ حيث يتمّ لقاء خاص مع أساتذة الجامعة، ويحضر مأدبة الغداء، وأراد الشيخ الإمام أن ينزل من السيّارة، ولكن سعادة السفير لما رأى الجموع الحاشدة من الناس يندفعون إلى سيّارته رغبةً في رؤيته، منعه من أن ينزل من سيّارته خوفًا من أن يصيبه مكروه أو يصعب عليه ركوب السيّارة في الجموع التي تكتنفها، فذهب إلى مهبط المروحيّة توًّا، فذهب بعض أساتذة الجامعة بالغداء إلى المهبط، فما إن وصلوا المهبط حتى طارت المروحية في نحو الثالثة والنصف ظهرًا.

     وفي 25/ ربيع الثاني 1432هـ الموافق 30/ مارس 2011م أرسلت الجامعة وفدًا مكوّنًا من فضيلة الشيخ أرشد المدني، والشيخ محمد سلمان البجنوري والشيخ منير الدين القاسمي أساتذة الجامعة وكاتب السطور لإيصال رسائل الشكر لكل من الإمام المحترم، ومعالي وزير الخارجيّة السعودي، وسعادة السفير، ففــرح سعادة السّفير، وأفاد أن فضيلة الإمام كان سعيدًا بهذه الزّيارة، وبحضوره موتمر عظمة الصحابة (رضي الله عنهم) غاية السعادة.

     سجَّل فضيلة الإمام بعد ما عاد إلى الفندق في دهلي انطباعاته عن الجامعة في سجلها، وممّا كتب في السّجل:

     «يسّر الله لي زيارة جامعة دارالعلوم / ديوبند بدعوة كريمة من الشيخ أرشد المدني أثناء إقامته لمؤتمر عظمة الصحابة رضي الله عنهم، وقد سعدت بما غمروني به من حفاوة وحسن استقبال، والمشاركة لهم في احتفاء كريم وجمع غفير؛ فجزاهم الله خيرًا على جهودهم المباركة في هذا الصرح العلميّ الشامخ، والمعقل التربوي العريق، ونشكرهم على ما قدّموا، ونوصيهم وأنفسنا بتقوى الله عزّ وجلّ، وبذل مزيد من الجهود في خدمة العقيدة الصحيحة، والمنهج السليم على منهج سلفنا الصالح. بارك الله في جهودهم وسدَّد خطاهم».

     ولاتزال تعيش الجامعة ذكريات زيارة الإمام المحترم المباركة، وسوف تبقى حيّةً خالدة في ذاكرة تاريخ الجامعة بإذن الله.

*  *  *



(*)    أستاذ قسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب  1432هـ = يونيو  2011م ، العدد : 7 ، السنة : 35